Unconfigured Ad Widget

Collapse

لـيلٌ صباحــه الجنة

Collapse
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • الفنار
    عضو مميز
    • Sep 2003
    • 653

    لـيلٌ صباحــه الجنة


    - جهاد.. إنهم يهاجمون المنزل من الناحية الشرقية.. أسرع بالهروب..
    استيقظت على هتاف صديقي حسان وهو يهزني بينما أغط أنا في نومٍ عميق بعد أيامٍ من الإجهاد في الغابات القريبة...
    في لحظةٍ واحدة كنت قد استويت واقفاً بوسط الغرفة.. أسرعت احمل سلاحي وارتدي معطفي الثقيل تحسباً لما قد يكون في هذه الليالي الشاتية.. بينما قفز حسان إلى دولابٍ بناحية الغرفة الغربية ليزيحه من مكانه.. حيث تكشف عن ممر طويلٍ يؤدي إلى بابٍ يفتح على الناحية البعيدة من القرية.. تسللنا عبر الممر وما كدنا نعيد الدولاب لمكانه حتى أتانا صوت اقتحام الجنود للمنزل.. وباب المنزل الخشبي يكسره الجنود.. حيث تستقبلهم والدة صديقي بعد أن ودعت ابنها بدمعتين أسقطتهما على عجل.. ودرجنا نحن في الممر الطويل ونحن ندعو الله لها بالعون والسلامة..
    ما إن فتحنا الباب الآخر البعيد.. حتى صوبت نحو صدورنا رشاشات الجنود مع أمر بإلقاء الأسلحة.. ألقيت أنا سلاحي ورفعت يدي للأعلى بينما تظاهر صديقي بإلقاء سلاحه .. وبحركةٍ رشيقة قفز إلى داخل المنزل وهو يطلق نيرانه على الجنود فأسرعت أنا بإلقاء جسمي على الأرض والرصاص المتبادل يمزق مسامعي ويئز فوق رأسي..
    انتهى أمر صديقي.. فالكثرة تغلب الشجاعة.. وصعدت روحه إلى بارئها.. وبقيت أنا لحياة الهوان ولحكمةٍ يعلمها الله..
    أسرع الجنود بتقييد يدي.. انهالت علي ركلاتهم ولكماتهم وشتائمهم.. خيطٌ من الدم انبجس من شفتي بعد أن جرحها أحد الأوغاد بيده الضخمة.. ألقيت نظرةً أخيرة على جسد صديقي المسجى.. رأيت على وجهه نوراً وهالةً من ضياء.. غبطته على هنائه ورثيت لنفسي في شقائي..
    أجلت نظري في البيوت المقابلة وأنا أفكر.. ترى ما مصير نساء القرية وشيوخها؛ بل ومستقبل أجيالها.. بعد أن قضى الطغاة على شعلة الدين فيها..
    رحمك الله يا حسان.. كم بنيت من رؤىً وآمال.. وكم طافت بنفسك من أماني وأحلام.. كنت تتطلع ليومٍ ترى فيه الإسلام واقعاً معاشاً وحكماً مطبقا.. كنت تنتظر ذلك اليوم الذي يسود فيه الحق بسيادة أهله.. فحوربت وحوربنا معك في آمالنا وتطلعاتنا.. شقينا بالكبت والسجون والمداهمات والاعتقالات.. وها أنت تموت في سبيل دينك وعقيدتك.. تموت وقد خلفت وراءك خطيبةً تنتظر يوم زفافك وزفافها ببالغ الشوق.. فلم تفقدك هي فقط؛ وإنما فقدك ديناً كم يحتاج إلى الغيورين عليه والمحبين له والمناضلين عن حماه من أمثالك.. رحلت صديقي إلى الحور أما أنا فدعني.. آه من ليلٍ طويلٍ سيطويني بجناحه..
    لم يتركني الجنود لأسرح مع أحلامي.. فقد هوى علي أحدهم بعقب بندقيته وهو يأمرني بالسير أمامه.. فسرت والقيد يعيق رجلي عن المشي ولطمات الأوغاد تسوقني سوقاً إلى سيارتهم الواقفة غير بعيد..
    ما إن وصلنا للسيارة حتى حملوني حملاً وقذفوني فيها.. وهناك استقبلني ضابطٌ ذو رتبةٍ عالية بركلةٍ ألقتني على الأرض.. ثم حمل قدمه القذرة ليضعها على وجهي ويكتم بها أنفاسي.. فاضطررت إلى الانقلاب بحيث يصبح وجهي للأرض.. ثم تحركت السيارة بينما رحت أنا وقد كفت عني ضرباتهم في شبه غيبوبة..


    للقصة بقية>>>>..
    " فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"
  • الفنار
    عضو مميز
    • Sep 2003
    • 653

    #2

    رأيت في غيبوبتي حلماً عجيباً!.. كانت السماء تلتقي مع الأفق في خطٍ لازوردي اللون، بينما أنا اجر خطواتي المثقلة في أرضٍ صلبةٍ شديدة السواد، جعلت كل همي أن اصل إلى حيث ينبعث الضوء العجيب عند الأفق البعيد، فجأةً تبدت أمامي حفرةً عميقة انشق عنها وجه الأرض، قبل أن أتراجع كانت أقدامي تنزلق فيها وأهوي إلى هوةٍ سحيقة، رفعت طرفي للأعلى لأرى عند السماء كوةً واسعة ينبعث منها وهجٌ ساطع، ووسط تلك الكوة كان يتلألأ وجه صديقي حسان، مددت يدي نحوه مستغيثاً؛ وقبل أن أحدثه أو حتى أملي نظري من جمال وجهه، أيقظتني ركلةٌ قويه على خاصرتي اليمنى اهتز لها بدني، وانبعثت من فمي آهةٌ لم استطع كبتها، وصاح أحدهم: قم يا ابن......!!
    نهضت والألم يبرح بي ويثقل خطواتي، يبدو أننا انتقلنا للمدينة البعيدة، فقد كانت الشمس تؤذن بالبزوغ، دفعوني من السيارة فسقطت على ركبتي فوق الأرض الإسفلتية الصلدة، أوقفني احدهم بجذبةٍ من يده ثم دفعوني أمامهم نحو بوابة المبنى التي تراءت لي وكأني في أعنف كوابيسي، لم تكن عن ذهني غريبة؛ إنها بوابة سجن المغاور!!..
    لم نكن في جهادنا وأيام قتالنا نخاف الموت أو الجروح أو حتى الاعاقه وإنما كنا نرى الابتلاء مجسماً في صورة هذا السجن العتيد، إن اسم المغاور اسمٌ ترتعد أمامه فرائص اشد الرجال ثباتاً، فهو قصرٌ أثريٌ قديم لأميرٍ سالف؛ اشتهر هذا الأمير بجوره وطغيانه حتى انه جعل من قصره منافذ غريبة، تفضي بالسالك عبرها إلى مغارات واقبيه في باطن الأرض، لا يصلها الضوء إلا بالشموع ، مع فتحات تهويةٍ صغيرة تمرض السجين أكثر من أن تفيده، وكلما أوغلت تعمقاً كلما زاد السجن ظلاماً وازداد السجين عذاباً في جوٍ رطبٍ موبوء..
    هذا هو سجن المغاور، وان كنت في ذلك اليوم الذي عبرت بوابته الكئيبة لا أعرف عنه إلا اقل القليل من المعلومات، ولكنها تكفي لبث الرعب بالنفوس، فقد تعاقبت عليه الحكومات إلى هذه اللحظة وكلها تبذل من الجهود في ترميمه وملأه بالمسجونين؛ أكثر مما تبذلها في نشر العدل وإحقاق الحقوق..
    عند البوابة استقبلنا حارسٌ متجهم الوجه، دُفعت إليه بينما انصرف الجنود ليجلبوا غيري من أبناء الشعب وطلاب الحق، أخذني الجندي إلى داخل القصر العتيق، كان مدخل القصر وإيوانه يبعث الرعب في نفسي أنا الذي كنت ألقب بابي الفداء؛ والذي كان يمازحني أصدقائي بقولهم: إن الخوف نفسه يخاف منك..تغلبت سريعاً على وساوس الشيطان، تذكرت أني صاحب عقيدةٍ ومبدأ، واني سائرٌ على درب الحق إن شاء الله، فزال عني بعض ما وجدته، وبدأت في سري أتلو آياتٍ من كتاب الله، ولست ادري لم كانت سورة الأنفال هي ما قرأته تلك اللحظات..
    بعد أن قطعت مع الحارس ممراتٍ وغرفاً كثيرة، لم أشاهد فيها أسيراً مثلي وإنما قلة من الجنود، يذهبون ويأتون ويحدقون في بعيونٍ متجهمة ناقمة..أخيراً نزلنا عدة سلالم ثم طرق باب إحدى الغرف وأدخلني على ضابطٍ قد جلس على كرسيه الدوار ورفع إحدى رجليه على المكتب بمواجهتي مباشره، تجاهلت الإهانة المقصودة؛ فما لقيته منذ الصباح اكبر من هذا بكثير، تمعن الضابط في وجهي ثم قال للحارس: أيها الكلاب لماذا تنزفون الدم من وجهه هكذا؟! اذهب سريعا واحضر ماءً يغسل به وجهه.. ثم همهم ببعض الكلمات البذيئة بينما انطلق الحارس مسرعاً لتلبية الأمر..
    ظللت مشدوهاً انظر لهذا التغير العجيب!.. واستغرقنا في الصمت الذي قطعه دخول الحارس بالماء حيث غسلت وجهي الدامي وأحسست أني استرجعت شيئاً من كرامتي..
    - إذن أنت أبو الفداء... قال الضابط
    - نعم أنا مجاهد أبو الفداء
    - ما شاء الله كلك إرهاب حتى اسمك..
    - إذا عرّفت لي الإرهاب من وجهة نظرك استطعت أن أجيبك..
    هب الضابط واقفاً وقد استشاط غضباً، حيث يبدو إنني استثرته فقد صاح:
    - ومن أنت حتى تطالبني باعترافات، أنت متهم ومجرم هنا وسترى ما يعجبك..
    أحسست بسكينةٍ غريبةٍ تهبط علي، شعرت أن كل هذا الطغيان إنما هو هباءٌ تجلوه نسمة رياح..
    - إنني في جهادٍ على الجبهة أو في السجن وما أقول لك إلا ما قاله السحرة لفرعون "فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا"
    عندها قرع احد الأجراس على مكتبه ليبرز على الباب احد الجنود وقد ارتدى قناعاً بحيث لا يرى منه إلا عيناه!!.. فهتف به الضابط:
    - خذ هذا المتفلسف إلى الزنزانة التاسعة، واهتم بتناوله للوجبات اليومية..
    تبدت نظرة هولٍ على هذا الوحش المقنع وهو يقيسني بنظراته، ثم أدى للضابط التحية وأسرع يسحبني بقيدي على الأرض دون أي إمهال، كانت له قوةٌ عجيبة فقد استمر في سحبي بلا كلل عبر الممرات الكثيرة ، والأرض الخشنة تتنازع على تناوش جلدي وسحله، إلى أن وصلنا إلى درجٍ حجريٍ ضخم..
    هناك انتزع يده مني وهوى بها على خدي ثم امرني بالوقوف، هتفت من جحيم الآلام:
    - هذا ليست بشرعية ولا قانونيه هذه نازية..
    أطلق قهقهة عالية ثم نادى احد رفقائه المقنعين ليخبره بما قلت وقد تردد صدى قهقهاتهم في الممر المظلم، أوقفوني بعدها والقادم يسال زميله:
    - إلى أين تذهب به؟
    - يقول الضابط الزنزانة التاسعة؟ أرأيت؟!!..
    نظر إلي الآخر بذهول ثم قال:
    - الزنزانة التاسعة؟!.. يبدو انه مجرم من اخطر الأنواع فلا أحد يقبع في الزنازين الثمانية التي اقل منه فيما أظن؟!..
    - نعم إن آخر من كان هناك هو ذلك السجين صاحب اللحية البيضاء الذي دخل للزنزانة رقم ثمانية ووجدناه ميتاً في اليوم الثاني.. أما هذا ففي التاسعة مع التوصية بالوجبات اليومية
    قال جملته الأخيرة وأرفقها بلكمةٍ عنيفة تقطعت لها أنفاسي، ثم امرني بالنزول أمامه على السلم الحجري..
    كنا كلما ازددنا نزولاً ازداد المكان ظلمة حتى أني خفت التعثر لولا نورٌ ضئيلٌ جداً يأتينا من الأعلى، وعندما امرني بالوقوف كان البرد يرجف بعظامي ويخترقها، كنا قد نزلنا مسافات طويلةٍ إلى الأسفل؛ بينما استدار هو نحو بابٍ حديديٍ صغيرٍ لا يكاد يرى، في أعلاه نافذةٌٌ ضيقه تتخللها ثلاثة قضبان فولاذية، فتح الباب ثم القاني عبره ليصطدم رأسي بالجدار وأسقط للمرة الثانية في غيبوبةٍ عميقة..

    للقصة بقية >>>>..
    " فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

    تعليق

    • الفنار
      عضو مميز
      • Sep 2003
      • 653

      #3
      في هذه المرة استيقظت على مهل، ظللت لدقائق مغمض العينين، استرجع في ذاكرتي تسلسل الأحداث لأوجد تفسيراً لما اشعر به من البرد العظيم، والألم الذي ينوء به جسدي..
      فتحت عيني وقد تذكرت... هذا إذاً يومي الأول في سجن المغاور، ترى في أي ساعةٍ من اليوم نحن؟ وكم مضى علي في غيبوبتي؟ كان الظلام من الشدة بحيث تساوى الليل بالنهار فلا أستطيع تفريقاً بينهما..
      أخذت يدي تتحسس ما حولي، لم تكن المسافات متباعدة؛ وإنما زنزانةٌ يساوي طولها مترين والعرض ما يقارب المتر، وعلى الأرض حصيرٌ بالي يرشح بالرطوبة والعفن، لم تكن الزنزانة ذات ارتفاع عالي؛ فقد استطعت وأنا جالساً أن المس سقفها بيدي وهو صخري التكوين كما هو الحال مع الجدران...
      مع مرور الوقت ورجفات البرد والألم كانت عيناي تخترقان حجب الظلام، وتتكيف مع الظلام الدامس لأبصر ماحولي ، وقد لفت نظري جردلان وضعا بزاوية الزنزانة، يحوي أحدهما القليل من الماء تحوم حوله الحشرات، ولا شك أن الآخر كان لإفراغ الفضلات...
      أخذت ذاكرتي تسترجع أحداث الماضي لحظةً بلحظه، أيام الطفولة الأولى في قريتي القابعة في أحضان الجبال، أصدقائي وملاعب الطفولة وما يتخللها من ودٍ ثم نزاع سرعان ما يعقبه صفاء، كل أبناء القرية جزءٌ من طفولتي إلا حسان رحمه الله فقد كان أكثر من ذلك، لم نكن نفترق عن بعضنا منذ إشعاعات شمس الصباح الأولى إلى مغيب الشمس..
      حسان بجسمه النحيل وعوده الصلب وعناده الذي عرف به، كان يبدو قاسياً بينما بداخله قلبٌ رقيق، عثرت عليه منذ الطفولة فكان كنزاً ومعيناً لا ينضب من الإخاء..
      توفيت أمي بعد معاناةٍ مريرةٍ مع المرض، لم يكن بالقرية ولا حتى بالقرى حولنا مركز صحي فتنقل إليه، علمت بعد سنين انه في تلك الأيام التي كانت أمي فيها تتمنى الدواء فلا تجده؛ كانت الدولة تنفق الملايين على استضافة دوري كأس العالم!!...
      وهكذا ماتت أمي وتزوج أبي ولم يكن لي مؤانسٌ في كل بلواي إلا حسان، كان منزلهم هو منزلي، عطفت علي أمه وعاملتني كأني ابنها، وغمروني بفيضٍ من المشاعر هون علي مصابي في أمي..
      أنوار، يالها من قصةٍ نسجتها الأيام على قلبي المتعطش للحنان، حينما كنا نلعب حول شجرة السنديان الكبيرة، كانت أنوار شعلةٌ من النشاط والحيوية، يتألق جمالها كما تتألق خصلات شعرها الذهبية، وعيناها السوداويتان، برغم صغر سننا إلا أني كنت ارقبها وأخاف عليها أن تقترب من البئر القريبة، أذكر بوضوح يوم أن أقبل قطيع الأبقار الذي كان يشرب من البئر، فابتعدنا عن طريقه، وعندما أرادت أنوار الهروب تعثرت فسقطت أمام القطيع.. وكانت عرضةً أن تدهسها الأبقار بأظلافها، يومها وقف سائق القطيع وجميع الأطفال وقد عقد الخوف ألسنتهم فلا أحد يجرؤ على الاقتراب لينقذها، لم أشعر بنفسي إلا وقد قفزت بتهورٍ لأحملها وأعدو بها مبتعداً في اللحظات الأخيرة... بينما هي تبكي في خوفٍ وجسمها الصغير ينتفض على صدري، أحسست ليلتها برضىً عميق، وانشراح بفؤادي، رغم أني لم أكن قد تجاوزت الحادية عشرة من العمر، وكانت هي في التاسعة من عمرها..
      ظلت أنوار بعدها تنظر لي بعين الامتنان، مما يبعث في نفسي آيات السعادة والابتهاج، رغم العهد القريب بوفاة أمي..
      مرت الأيام وكبرنا معها... فاحتجبت عني أنوار إلا أن طيفها لم يحتجب عن فؤادي، وقد كان حسان هو أمين سري على حبي الطفولي البريء... منذ أن بدأ وحتى اكتمل حباً ناضجاً..
      ومضيت أعلل النفس بالزواج ممن كانت منية الفؤاد إلا أن الأحداث عاجلتنا، واقتحمت علينا سكون قريتنا، وعكرت أريج ليلنا، فمضينا نخوض عبابها حتى لم أعد أدري في غياهب سجني أفي ليلٍ أنا أم في نهار؟؟ فضلاً عن أعلم عن مصير أنوار بعد تلك السنين العجاف، ونحن نخوض غمار الجهاد..

      للقصة بقية>>>>..
      " فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

      تعليق

      • الفنار
        عضو مميز
        • Sep 2003
        • 653

        #4
        انتشلتني من سلسلة الذكريات بمرها وحلوها خطواتٌ خافتة، وسرعان ما برز من نافذة الزنزانة أحد الوجوه المقنعة، نظر إلي لحظة ثم فتح الباب ودخل بصمت، شجعني صمته فقلت:
        - تدعون أننا في دولةٍ تعترف بالحريات وتضعونني في هذا القبر الـ...
        لم أكمل جملتي؛ فقد قطعها بركلةٍ أسالت من انفي سيول الدماء، ورمتني على الطرف الآخر من الزنزانة ليصطدم رأسي بالجدار، تقدم نحوي ثم أمسكني بشعري وهو يردد بصوته الأجش: أيها المتفلسف...
        ثم مضى يكيل لي اللكمات حتى استلقيت على الأرض منهكاً وقد تروى الحصير تحتي بالدماء، تراجع بعدها ناحية الباب وأحضر كسرة خبزٍ ألقاها علي وهو يقول: هذه وجبتك اليومية!!..
        ثم أغلق الباب ومضى صاعداً السلالم، وأنا اتبع بسمعي خطواته حتى تيقنت من ابتعاده لتنفجر من عيني الدموع، والألم يزلزل جسدي ويزيده البرد قوةً وقد تدافعت على شفتي آهات التوجع التي حبستها أن تخرج أمام ذلك الوحش البشري، فلم أكن أريد له أن يراني متألماً..
        مضت ساعات عديدة وأنا بحالتي هذه، تطوف براسي خيالاتٌ محمومة، فمرةً أراني مع أنوار جالسين عند السنديانة!!. ومرةً مع حسان نحفر الخنادق العميقة، وتراءت لي مرةً أمي تناديني وأنا أحاول الذهاب إليها فلا أستطيع رؤيتها وقد تعاقدت بيننا حجب الضباب..
        أفقت أخيراً من أحلامي واستويت جالساً وكأن لم يكن بي علة؛ أحلمٌ كان ما سمعته أم علم، فقد تناهى إلى سمعي صوتٌ شجيٌ يردد بالأذان، مستحيل أن يكون الصوت بهذا السجن العتيد، فمنذ أن جاء النظام الإلحادي العميل، والأذان لا يسمع من المساجد فقد منعت الدولة رفع الصوت به، بينما الكنائس المتزايدة تزعجنا بقرع أجراسها في كل أوان...
        تذكرت أني لم أؤدي الصلاة منذ جئت، فلم أكن أعرف الوقت الذي أنا فيه، قدرت اجتهاداً انه قد مضى علي يومٌ بأكمله، نظرت إلى الماء الموجود فوجدت انه لا يكاد يكفي للشرب، فتيممت وأديت فرائضي جالساً، فلم تكن الزنزانة تسمح بالوقوف، وبعد الصلاة شعرت براحة اليقين تجتاحني، وتنفحني بنسماتها العطرة، ثم مددت يدي لكسرة الخبز أبلها بالماء لتلين وأتناولها لأسكت بها الجوع الذي يقرص أمعائي...
        آآآآه....
        صرخةٌ انطلقت شقت أديم السكون، قفز قلبي إلى فمي وقد تعالى النواح وازداد الصراخ!!....
        صرخاتٌ رهيبة تمتزج بفرقعة أسواطٍ تخيلتها كأذناب البقر، لم أكن قد اقتربت من النافذة قط؛ إلا أن ما سمعته جعلني اقترب منها رويداً رويدا، أجر جسدي المنهك الدامي، لألقي نظرةً على الفراغ المظلم خارج الزنزانة، كانت الأصوات تصدر من الأعلى، وقد أرهفت أذني فلم يلبث الصياح أن انقلب إلى نواح ثم إلى أنينٍ خافت مالبث أن انقطع ليسود السكون...
        كانت من أسوأ اللحظات في عمري... فقد تراءت أمام عيني صنوف العذاب التي كنت أقرأ عنها في دواوين التفتيش قديماً، وتلك التي تحكيها الروايات بسجن الباستيل بفرنسا؛ وتخيلت أني أقاسيها وأصطلي بنارها..
        كم كنت في تلك اللحظات مغفلاً!!.. علمت هذا بعد أشهرٍ من بقائي بالسجن، فقد زرت غرف التعذيب مراراً وتكراراً، وكما استمعت لأنين غيري وهو يقاسي الأهوال؛ استمع الآخرون لصياحي تحت قسوة آلات العذاب الجهنمية..
        هكذا إذاً هو تطورنا، فقد رأيت من أصناف العذاب وأدوات الجلادين القساة مالم يكن يخطر ببال شياطين قساوسة أديرة التفتيش، كان تعليق السجين من رجليه لمدة ساعاتٍ هو أخف العذاب الذي يجده، أما الكراسي الكهربائية؛ والنطاق الذي يضغط على الرأس حتى يصاب المريض بالجنون، والتعذيب النفسي بالإيحاء؛ وغيرها فحدث ولا حرج...
        لم يطلبوا منا أي اعترافاتٍ أو أخبار، فقد كانوا يمارسون التعذيب لأجل إشباع السادية في أعماقهم...
        وكم كنت أفكر في هؤلاء الجلاوزة كيف يكونوا قد مروا بأيام الطفولة الرقيقة، وهل لهم يا ترى زوجاتٌ محبات؟ أو أطفالٌ يرعونهم بمنتهى الحنان؟!..
        سنتين مرت علي في السجن خلتها عشرين سنة، كان تقدير الوقت للصلاة من أصعب مايكون، ومع ذلك فقد كان موعد تعذيبهم هو نقطة الارتكاز التي ابني عليها فرضية الوقت، ولو لم أسمع أحد الجلادين وهو يخبر رفيقه بتاريخ اليوم لما علمت عن مدة مكثي شيئاً...
        أصبت في هذه المدة بمرض الدرن لرطوبة الزنزانة وعفونتها، مما حملهم على نقلي لزنزانةٍ أرفع منها وان كانت في البلاء سواء..
        وقد كان الكلام في الزنزانة ممنوعاً أشد المنع، وأنّى لمريضٍ مثلي أن يكتم السعال الذي يمزق صدري وينهشه، وهو ما جر علي من البلاء والعذاب أصنافاً تضافرت مع اشتداد المرض لتلقيني على شفير الموت..

        للقصة بقية>>>>..
        " فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

        تعليق

        • الفنار
          عضو مميز
          • Sep 2003
          • 653

          #5
          كنت منطرحاً بزنزانتي جلداً يكسو العظام، تحشرج أنفاسي بصدري المتعب، بعد ساعاتٍ من التعذيب المتواصل...
          فجأة داهمتني نوبة سعالٍ ثارت كبركانٍ في صدري، رفعت يدي لألجم بها فمي وأنا أكتمها وأنّى لي بذلك، فقد اندفع سيل الدم من فمي يرافقه سعالٌ تمزق له صدري وكان اشد علي من كل عذاب..
          ولم يطل علي الوقت، إذ لم تمض ثواني إلا والجلاد يفتح الزنزانة ويطلق أقذع السباب..
          سحبني بشعري ناحيته، تفرس بعينيّ المنطفئتين والدم الذي سال من فمي، ثم جرني عبر السلالم إلى قاعة التعذيب التي ألفت وجودي بها، وهناك القاني بركنها كالجثة الهامدة...
          مضى بعض الوقت قبل أن يعود ومعه الطبيب الذي يوقفهم عن تعذيبنا إذا رأى أن زيادة العذاب قد تؤدي للموت، كان مع الطبيب الضابط المسئول..
          أقبل الطبيب بسماعته ووضعها على صدري؛ ثم انتهرني لأفتح فمي الدامي، نظر إلي عيني بتركيز؛ بعدها التفت إلى الضابط قائلاً: لن يعيش هذا الجرذ أكثر من أسبوع..سأله الضابط:
          - حتى لو تمت معالجته؟؟
          - يا سيدي لقد فاتت مرحلة علاجه بكثير؛ ولو أدخلتموه لأرقى المستشفيات العالمية..
          - جرذ لا يستحق الحياة، ولكني كنت أتمنى رؤيته أكثر..
          قالها وانصرف مقهقهاً بينما سحبني الجندي نحو الزنزانة وأنا أحمد الله في سري على لطف أمره، بقبض روحي إليه..
          في الصباح قادوني مرةً أخرى ، وهناك شاهدت ضابط الأمس ومعه الضابط الذي دخلت أول ما دخلت عليه في هذا السجن..
          ما إن رآني حتى قال:
          - أوووه لقد تغيرت كثيراً، الم يكونوا يقدمون لك وجباتك اليومية؟.. تعالت عاصفة الضحك من الجميع، بينما أكمل:
          - بما أنا قررنا الإفراج عنك فسوف أعلم هؤلاء الكلاب كيف يقدمون لضيوفنا الوجبات!!..
          تقدم نحوي بسيجارته المشتعلة ليطفئها على صدري العاري، أمر الجنود فألقوني على سريرٍ قصير يحمل جسمي ويتدلى من آخره رأسي..
          سرعان ما تقدم أحدهم ليسد فمي بلجامٍ حديدي، وأتى الضابط اللعين بإبريق ماء ليصبه من أنفي...
          حاولت تحريك رأسي فلم استطع، حاولت التنفس فعاقني اللجام على فمي، شعرت برأسي ينتفخ ويتمدد، ثم تفجرت الشرايين، واندفعت من انفي وأذني وفمي نوافير الدماء...
          غبت بعدها في لجة الظلام..
          وكان آخر ما أحسست به ورأيته؛ جسدي المكدود راقياً إلى السماء...
          وقد تراءت لي أمي بجلالها وحسان بالدماء المتدفقة من جرحه وهما يبسمان لي ويمدان لي يد الترحيب...

          خاتمة:
          ( عثر السجان في الصباح على هذه المذكرة في زنزانة الشهيد، ولم يعلم كيف كتبها، فقرأها ليجد قلبه القاسي يرق ويلين، ليتولى كتابة اللحظات الأخيرة منها، ثم حملها إلى قرية الشهيد ليسلمها إلي، ولا يسأل أحدٌ كم أغرقتها بالدموع والعبرات، وقد وجدت فيه بقايا ممن لا يسلو عن ذكره الفؤاد؛ ولم أكن لأضيف عليها إلا كلماتٍ موضحةٍ تقول: أرادت الدولة الغاشمة أن تبني مدرسةً للرقص مقابل مسجد القرية فهب أبناؤها للجهاد ضد مقدساتهم وأعراضهم، وكان القتل والسجن والتشريد مصيرهم وستكون الجنة إن شاء الله مكان لقينا ولقياهم....< أنوار >)

          تمت
          " فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

          تعليق

          Previously entered content was automatically saved. Restore or Discard.
          حفظ تلقائي
          Insert: Thumbnail صغير وسط كبير Fullsize Remove  
          or Allowed Filetypes: jpg, jpeg, png, gif, webp

          ماهو اسم المنتدى؟ (الجواب هو الديرة)

          Working...