السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في هذا الموضوع سنورد نص ورد في كتاب كليلة ودمنه لعبدالله بن المقفع مع قصيده رويت عن ابن ثامره ، ولزم في بداية الأمر ان نضع مقدمة موجزه نستشف منها ما للمأثور الشعبي من اهمية في معرفة نتاج مجتمعنا القديم .
--------------------------
ألمأثور الشعبي نتاج تجارب فكرية وثقافية وإجتماعية ، تعود جذوره الى خبرات طويلة تناقلتها الأجيال عبر مدى طويل من الزمن ، جسدت فيه واقعها بما يحمله من مشاكل وهموم وطموحات وأحلام ، كما جسد وصور فيها ارتباطه ببيئته وتفاعله معها بشتى الصور التي أبدع فيها ، من حكايات وغناء وطقوس وعادات وتقاليد وشعر وأمثال وألعاب ، وهذا المأثور الذي وصل إلينا مشافهه ، تطور عبر العصور حسب التطور الفكري والأجتماعي والأقتصادي للمجتمع متأثراً ببيئته ومتأثراً بالثقافات من المجتمعات الأخرى ، والبحث في التراث القديم يقودنا الى معرفة الماضي الذي عاشه أجدادنا وأسلوب الحياة الذي كانوا عليه .
فمن خلال المأثور الشعبي نستطيع أن ندرس نمط تفكير وعادات وتطور ملامح الوضع الاجتماعي من حيث الرخاء والشقاء وأسلوب الحياة ومدى التطور الذي لحق بذلك المجتمع في تلك الفترات لا سيما ان المجتمع القديم الذي بالكاد كان يوفر قوت يومه لم يترك لنا شواهد تاريخيه مكتوبه أو منحوته تدل على نمط تدرجه في التطور ، فما وصلنا تناقلته الأجيال مشافهة ، حتى اننا نذهب الى النظرية القائلة أن المجتمع الجاهلي قبل الأسلام والذي لم يوثق تاريخه الا فيما ندر ، ما هو الا مأثور شعبي برز فيه أبداع اللغة.

كما ان الثقافة الشعبية بناء متكامل تناغم فيه الإبداع مع قدرات خلاقة كعامل مؤثر في طبيعة النص ، وتوثيق التراث الشعبي يقودنا في مجمل البحث عنه الى أمور تصحح فهمنا لهذا الموروث .
  • - فهو يسهم في معرفة الحياة الثقافيه والاجتماعية والسياسية والأقتصاديه ، مشكلاً في مجمله منهج لإعادة صياغة تاريخ ذلك المجتمع وفق معطيات متداوله من مأثوره الشعبي.
  • - كما انه يبرز لنا أسلوب التغير الثقافي والأجتماعي من خلال العوامل التي أدت الى تغيره والسرعه التي تم بها التغيير واتجاهات ذلك التغيير.
  • - كما انه يسهم في معرفة أنواع التبادل الثقافي والحضاري بين مختلف المجتمعات والشعوب ومدى تأثر المجتمع بهذه الثقافات المتباينه
وفي هذا البحث سنحاول أن نلقي الضوء على إعادة صياغة قصة الى قصيدة وفق نظرية الأقتباس من ثقافات أخرى وتأطيرها في إطار من المحليه ، مع ملاحظة ما تم من أعادة صياغتها وفق معتقدات وعادات كل مجتمع مع المحافظة على اساس الفكرة.
القصة وردت في كتاب كليلة ودمنه وهي من الحكايات الشارحه والتي تهدف الى تفسير صفة او ظاهره معتمده على اقناع المتلقي ، وذلك عبر شخصيات من عالم الحيوان بدون ان يخوض في تفاصيل سرديه عن صفاتها ، فبمجرد ذكر الأسد يتبادر الى ذهن المتلقي السطوة والسلطان ، أما ابن آوى فلدلاله على الدهاء والخبث والأنتهازيه ، يبقى الحمار في هذه القصة كبش الفداء الذي من خلاله يتم توجيه رسالة محدده وغرس قيم جديده ، عبر رسم صوره منفره للمتلقي برمزية الغباء وعدم الإتعاظ.
كما يعد صياغة حكايات على لسان الحيوان ومحاكاتها واقع الإنسان أحد أشكال الهروب من الرقابة ، والهدف منه ايصال خطابه الى المتلقي وكذلك الى السلطة ، مستغلا ابداعه وذكائه بأسلوب مميز حتى تكون مفهومه ومستوعبه من قبل المجتمع المحيط وبه وسهلة الحفظ وقابلة للتداول .
يقول عبدالله بن المقفع :
(وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له؛ وإلى أي غايةٍ جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصحٍ؛ وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً: فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني، ولا أي ثمرةً يجتني منها، ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب. وإنه وإن كان غيته استتمام قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه لم يعد عليه شيءٌ يرجع إليه نفعه).
كما انه يقول ايضاً :
(وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراضٍ: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم: لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان.
والثاني إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان: ليكون أنساً لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام؛ ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصةً).
-------------------------------
كليلة ودمنة كتاب قيم قام بترجمته وصياغته بأسلوب أدبي رفيع عبدالله بن المقفع عن الفارسية وهو مأخوذ عن كتاب وضعه علماء هنود ، يقوم على حوار بين الفيلسوف (بيدبا) والملك (دبشليم ) ، صيغ على لسان البهائم والطير ، مع عزم الفيلسوف على التصدي للملك الظالم حتى نجح ، وأعتقد (وهي مجرد وجهة نظر) ان من قام بتأليفه هو أبن المقفع ذاته وأدعى ذلك خوفاً من بطش المنصور ( وقد أكتشف في الهند نسخة قديمة تعود الى قبل عهد ابن المقفع) ومع ذلك لازلت أعتقد ان ابن المقفع له بصمة كبيرة وواضحة في صياغة أحداثها.